Issue 3: Dictationship

أربع أوهام

دارا عبدالله

وَهْم التفوُّق

بعد إنهائي شهادة التعليم الثانوي، والتي تسمّى “البكلوريا” في سوريا بتفوّق، دخلت إلى كليّة الطب البشري، هنالك أنفقتُ خمس سنواتٍ فاشلةٍ من عمري في دراسة الطب البشري. فاشلة على صعيد التفوُّق الدراسي، والاندماج العلمي، وصوغ نفسيَّة تلائم البُعد الاجتماعي لشخصيّة الطبيب.

في مرحلة الثلاث سنوات الأولى، حيث يتمُّ تعليم أساسيّات الطب، كنتُ أهربُ من الدروس العملية في التشريح والكيمياء الحيويَّة، وأشعرُ بالنّعاس في كل المحاضرات النظريَّة (عدد المحاضرات النظريّة التي حضرتها في كل الفترة الدراسيَّة لم تتجاوز أصابع اليد). أمّا في مرحلة الطب السريري، فتردُّدي على المشفى كان بحكم الحضور الإلزامي فقط، وذلك لما كانت تبعثُه الأمراضُ المستعصية على العلاج في داخلي من كآبةٍ نفسيَّة، وعدميَّةٍ وجوديَّة، وشُعورٍ بالعَبث واللاجدوى.

وبسبب الملل المستمرّ أثناء دراستي للكتب المتراكمة قبل الامتحان، ابتكرتُ هوايةً طريفةً تحت مُسمَّى "اللمحات الشعريّة في الكتب الطبيّة"، وكانت مناسبة كتابة هذا النص هو رؤية مُسوَّدةٍ قديمة تحتوي على بعض الومضات الأدبيّة المستخرجة من الكتب العلميّة، شاعريّة بالخطأ وغير مقصودة، أدبٌ بدون أدباء، وذلك أثناء "الضبضبة" ونقل كتبي من بيت صغيرٍ إلى أكبر نسبيّاً في برلين..
هذه ليست معلومات عمليَّة تحتوي لمحات شعريَّة، بل لمحات شعريَّة تحتوي معلومات عمليَّة. رأيت على طرف الورقة الخضراء اللمحات التاليّة، علما أني قمتُ بجمعها، ولم أتحمّل حقيقة أن بقيها معلومات مجرّدة، فقام حماسي بإجراء بتدخّلات بسيطّة، أتمنّى ألا تكون غليظة.

وأخيرًا، كنتُ قدّ دوّنت النص التالي على الصفحة الخليَّة في كتاب الأدويّة.
(فاشيّة العلم)
في مخبر كليّة الطب في جامعة دمشق، في السنة الثانية، وضعوا أمام كلِّ طالب حمامةً كي نقوم بتنخيعها، وإجراء تخطيطٍ لقلبها. والتنخيع، مصطلحٌ طبِّي يتم فيه قتل النخاع الشوكي بإبرة حادة. إذْ يتم إدخال الإبرة إلى نقطة دقيقة في ظهر الحمامة، بين رأسها وظهرها بالضبط، تجعلها فوراً تفقد كلّ أحاسيسها، ويبقى جهاز دورانها، أي قلبها شغالاً. تتحرَّك الحمامة بين يدي، وبازدياد شدّة مقاومتها، تتصلّب قبضتي أكثر. في عام 2008، أخرجت الإبرة من محفظة الأدوات الطبيّة الحادة، وأمسكتُ رقبة الحمامة. كان إبهام يدي اليسرى قريباً من عينها اليمنى. تتحرّك الحمامة بين يدي رافضة التجربة الطبيّة، وهذا القربان الظالم. أغرس الإبرة باحثاً عن المنخفِض المزعوم، والنقطة المطلوبة التي يجب أن تكون ليَّنة وطرية، كي تمتصَّ الإبرة فوراً. أضبضب جناحها كي لا أتأثّر بصوت الخفقان، عليها أن تموت بدون أن أحزن. ثوان طالت، وأنا أبحث وأمزّق لحم الحمامة باحثاً. استقرّت الإبرة أخيراً في حفرتها. أفرجْت عن رقبة الكائن المنخوع. شعرتُ ببللٍ على إبهام أصبعي اليسرى. سائل شفاف نُقَطِي. شعرتُ بالذعر، وسألت المشرف، فوراً، أجابني: “هذه دموعها”.

وَهْمُ الحُريَّة

لا معنى للزّمن في مكانٍ مُعتمٍ لا يُسمَح بدخولِ الضوء إليه، أو في مكان مُضاءٍ لا يُسمَح
بدخولِ العتمة إليه، ما يجعل الوقت وقتًا، هو هذا التناوب الأزليُّ الكونيُّ بين الليل والنهار، النّور والعتمة. الأسودُ الكالحُ الساكن أو الضوء الساطع المستمرّ، هو تجميد للحظة كوجوه الناس في الصور الفوتوغرافيَّة، هو انعدام للزمن وهذا هو تقريبًا جوهرُ الخلود.

في حالة انعدامِ التّناوب، يتحوَّلُ الطبيعيُّ الأصليُّ العاديُّ في الجسم البشري إلى ابتكارٍ مُفاجِئ. ما يلفظهُ الجسم خارجًا من خلايا ميَّتة فائِضة، يُشكِّل بوصلةً زمنيَّةً للساكنين في مَكانٍ ذي ضوءٍ واحد: طولُ الأظافر وكثافةُ الذقن، أظافِركَ وذقنُكَ ساعة أحدهم، وأظافرُ وذقنُ آخر هي ساعتك، أنتَ وأظفرهُ قصيرةٌ، لستَ أنتَ وقد طالتَ أظفرهُ قليلًا، لستَ أنتَ وقد طالتْ أكثر، ليس هو وقد طالتْ أظفرك!.

تشعرُ بالزمن بتأثيره العميق في أجساد الآخرين، كالتعب والتداعي والتقهقر والتراجع، مدروجُ زمنك هو اقترابُ أجسادهم من العدم.

الهندسةُ الكارهةُ رصَّفَت غرف الزنازين بتساوٍ مُخلصٍ على حافّتي الممرِّ الضيَّق، كإسطبلٍ كبيرٍ مليءٍ بالأحصنة، المكانُ مُهندَسٌ بحيث لا يَسمَح سوى بمرور شُعاعِ ضَوءٍ يتيم، ينبثقُ من باب السجن الأساسي، كانبثاقِ الإشاعةِ من فم النمَّام، ومرورِ نسمةِ الهَواء عبر شقِّ الباب.

شُعاعُ الشمس الآتي من الخارج يصطدِمُ بعمود مُسنَّن في الممر، ليرتسمَ ظلّه على الحائط المقابل، الظلُّ هو سفيرةُ الخليقةِ الوحيدة في الداخل، هو ممثِّل الخارج في الداخل، هو محاولة الفسيحِ للتسلُّلِ إلى المغلق، هو لطخةُ الحريَّةِ على جدار السجن.

الظلُّ يأخذُ عدداً لا نهائيًّا من الأشكال، حَسْب موقع الشمس في السماء، وكلُّ سجينٍ يراقبُ هذا الشكل المائع المتحوّل، ليفسِّره كما يعتقد أو يرى أو يريد، الشكلُ على الحائط مثل بصقةٍ ممدَّدة غيرُ محدَّدةِ الحواف، كحلزونٍ رُشَّ الملحُ عليه للتو.

ولأنَّ الأشكال المتولّدة من انطباعاتِ الغيوم ودخانِ السجائر ليست عبثًا، فإنَّ الأشكال الصادرةَ عن العمود المسنّن ليست مصادفةً أيضًا، ثمّة كلامٌ دقيقٌ يريد أحدهم إيصاله لك، هي لغة خاصّة للخليقة، هي لسان حال الكون، هي "كلام" الكون.

أصبح هذا الظلُّ الكليُّ التشكّل، لاحقًا ساعة الجميع.

كلُّ سجينٍ يحفظ شكلًا يتولَّد من الظل، نتيجةَ تراكب موقع الشمسِ في السماء في لحظةٍ معيّنة مع العمود المسنّن. العمود ثابتٌ والشمسُ هي التي تتحرّك لتتولّد الأشكال. خارجَ السجن، الأرضُ تدور حول الشمس الثابتة. داخل السجن حيث الاستثناء الكبير: الشمس هي التي تدور حول عمود السجنِ الثابت.

كلّ سجينٍ يكتشفُ في الظلّ شكلَه الخاص. أحدهم يرى في الظلّ وجه طفلة، سجينٌ آخر يرى في الظلّ شكل بيتٍ قديم، آخرُ يراهُ خنجرًا مغروسًا في تفاحة، أما أنا فقد كان شكلي الخاصّ: نهرٌ يجري.

الشكل يظهرُ مرّة واحدة فقط في اليوم، وظهورُ الشكل مرتين عند صاحبه، يعني أن يومًا واحدًا قد مرّ، لا تشعر بالنعاس والتعب إلا عند ظهور الشكل مرّتين. لكلّ سجين شكلٌ خاصّ به، أي يومٌ خاصّ به، أي ساعة خاصَّة به.

أحدُ المهووسين بالظلّ، صارَ يستطيع أن يحدّد موقع الشمس في السماء عبر الأشكال المتغيرة للظلّ، الشعاع هو دخول الخارج للداخل، والظلّ هو نفاذ الداخل للخارج.
لم الحريَّة إذاً؟!

وهم الأمان

بعد أن نقلت سكني إلى برلين، كوّنت شبكة معقولة من العلاقات مع الأصدقاء الألمان عمومًا،. نادراً ما أستطيع أن أستمر ساعات طويلة في التسامر والخروج مع الأصدقاء. وذلك حقيقة لأسباب متعددة، منها عدم وجود مواضيع مشتركة كثيرة مع الشباب الألماني من جيلي، وضعف الاهتمام بالشأن العام وبالأوضاع السياسية من قبل الشباب الغربي عمومًا (وهذا توصيف وليس حكم قيمة على الإطلاق). في بلدٍ مثل ألمانيا، السياسية خيار وليست إجبار، ويقتصر الاهتمام بالشؤون السياسية على طلاب الجامعات في العلوم الإنسانية. يبدو أنَّ السياسة تقل كلما ازداد الرفاه. في أحد أيّام الشتاء، تمَّت دعوتي من قبل أحد الأصدقاء إلى أحد ديسكوهات الرقص العنيفة في حي كرويزبرغ في برلين. وهو الحي الأكثر جذريّة في نمط حياته، والذي يمتلك فعلاً مقاومة اجتماعيّة حقيقية للنظام الرأسمالي العام في البلاد. وطبعاً، تصطبغ ثقافة هذه الأمكنة بالأيديولوجيا اليسارية التحررية المعادية للنيوليبراليّة الحديثة. ويتميز نمط الحياة هناك، بحدّة الوعي الذاتي البيئي (غالبيّتهم نباتيّون)، وتقديس حركات الفيمنمزم والمثلية الجنسيّة والدفاع عن حقوق المهاجرين. كما يتميّز حي كرويزبرغ بانتشار أعداد هائلة من الفنانين، وشيوع المخدّرات. كان الكلوب تحت الأرض ثلاث طوابق، رقص جنوني عنيف، وإحياء لطقوس غريبة، وأناس بأشكال مختلفة. إنه عالم الأندر غراوند. أو ما يسمى بالعربيّة “عالم ما تحت الأرض”. في الحقيقة لم أستطع أن أبقى في المكان أكثر من ربع ساعة. خرجت وأنا أدْمَع.

تنصُّ البداهة الهيغليَّة على أنَّ نسبة الأمان في أيّ مَقْطَعٍ زماني- مكاني في التاريخ، تعتمدُ بالدرجة الأولى على سُمْكِ واتّساع الطبقة الوسطى. أي أنَّ حاجة الطبقة الوسطى إلى الأمان، هو شرطٌ أساسي لوجودها واستمرارها. يُقصَد الأمان، كافّة أشكاله. من الأمان الاقتصادي (مكاتب العمل التي تقدم مساعدة اجتماعية للعاطلين عن العمل، ونظام الراتب التقاعدي)، والأمان الصحي (مؤسسات التأمين الصحي التي تؤمن الطبابة المجانيّة)، والأمان الأمني (عموميّة عنف جهاز الدولة وعدالته)، والأمان السياسي (تحويل النزاعات إلى سياسة وليس السياسة إلى النزاع).

في المقطع الزماني- المكاني الذي انبثقتُ منه، لا أمان في المجتمع، في سوريا، نواجه الحقيقة بشكلها العاري المجرد القاسي، لا وسيط بيننا وبينها، نواجه المرض وحيدين، نواجه عنف الدولة متروكين، نواجه الفقر معزولين، ونخاف من أرائنا، لأنَّ لا بعد لفظي لنزاعاتنا، بل هي ماديّة في الشارع.

ورغم أني أحارب الاقتباسات، إلى أنَّ الاقتباس الهيغلي هو مولّد ومؤسس للفكرة التي أقوم بطرحها، إذ يقول: “الشعور بالأمان، يفقدك القدرة على تلمّس وتحسّس نصف الحقيقة”. ومنه، فإنَّ الإندر الغراوند الغربي، هو خداعٌ طبقيُّ عَميق، هو محاولة لتكسير شروط الأمان، والتفاف على الأمان الفيصلُ بين المرء والحقيقة العارية المجرّدة المحضة. ولكن، يبقى هذا الاقتراب سياحيّاً ومزيّفًا واستشراقيّاً وضعيفًا، هو اقتراب مُبَعِّد، هو اقتراب لتثبيت شروط الابتعاد، وهو اليأس المطبق والضجر المتعب من الأمان. ما نعيشه فوق الأرض في سوريا، يتم خلقه تحت الأرض في الغرب.

أدْمَعت، لأنَّ الدولة الحديثة تشتق سياساتها، بشكل من الأشكال، من شروط حياة الطبقة الوسطى، من أشكال حيوات أفرادها، من هاجس استمرار أمانهم. ويبدو، بأنَّ شروط حياة الطبقة الوسطى بالغرب، واستمرارِ أمانِهم التاريخي، يَتغَذَّى بشكلٍ أساسيّ من لا أمان حيواتنا، من استمرار بقائنا معزولين ومتروكين. فهل رغبة الأندر غراوند في هذا الكسر السطحي اللافعّال لشروط الأمان، هي محاولة نرجسيَّة لرؤية ما يصنعوه بالآخرين، هل هو مرور لئيم بالتقمّص المؤّقت لحيوات من يرفد حيواتهم، ويفعّل بقائهم ويغذي استمرار وجودهم.

لماذا تحاولون أن تأتوا إلينا؟. ألا ترون أننا نأتي إليكم؟.

وهم الاندماج والمنفى

في كتابٍ بعنوان “شبكات الأمل والغضب”، للباحث، مانويل كاستيل، يشيرُ فيه إلى ظاهرةٍ ملحوظةٍ في عالمنا المعاصر، وهي دور السوق، وراحة الذائقة العامّة في تحديد الإنتاج وصياغة ملامحه وشروطه. صار خضوع الإنتاج الثقافي، لراحة الذائقة وسهولتها، شرطًا للانتشار والربح والشهرة والمجد (كتب والتر بينجامين بشكّل أدق وأعمق عن هذا الموضوع). يقارن كاستيل بين شيئين، الأوّل، هو دور الذائقة الأوروبيّة العموميَّة المعاصرة، في صياغة الإنتاج الأدبي للوافدين أو القادمين الجديد، مهاجرين أو لاجئين إلى هذه المجتمعات، وإنتاجهم لأدبٍ وفكرٍ يتوافق مع التصوّرات المسبقة، والأفكار النمطيّة السهلة للقرّاء الأوربيين، هذه الأفكار والتصوّرات القادمة، غالبًا، من الخطابات السياسيَّة والثقافويّة المُكرّسة. الثاني، هو دور الذائقة العامّة في وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً في الفيسبوك، في بناء وصياغة الكاتب العام العمومي، الكاتب الجماعي، في ظلّ غياب وتلاشي الكاتب الفرد الخاص. إذْ أنَّ اعتياد الكاتب الفرد على الشهرة والانتشار، تجعله يدمن (وهنا أبحاث علميَّة تتحدّث عن الإدمان على الشهرة في وسائل التواصل، ودرجة إفراز الهرمونات) على قول كلام لا يحقّق له سوى الشهرة والانتشار، ويكون الكلام غالبًا، مكوّناً، من أفكار شعبويّة، طائفيّة وقوميّة، وأي شيء يمسّ الغريزة، بعيدة عن التعقيد والتشابك. مع مرور الوقت، يصبح الكاتب سجين تصوُّر قرائه، ويعبُر الفردانية حيث النقد والمواجهة والنديَّة، ببطء وتدريج إلى العموميّة، حيث الشعبويّة والمُسايرة والاندغام غير المشروط. إذًا نحن أمام حالتين متشابهتين، الكاتب المهاجر في الغرب، وخضوعه لشروط ذائقة القارئ الأوروبي، والكاتب على وسائل التواصل الاجتماعي وخضوعه لذائقة من يقرؤوه باستمرار. ويحمّل كاستيل، الذي يدرس حالة الربيع العربي ووسائل التواصل الاجتماعي، بشكل دقيق وواضح، مسؤوليَّة انتشار الكثير من الأفكار الطائفيَّة والشعبويَّة والكتابة غير النقديّة، إلى المثقّف “المدمن” الداخل إلى هذه اللعبة غير النزيهة، والفاقد على قدرة قول شيء مخالف، لا يحقّق له نفس الدرجة من “المجد” والانتشار.
في المثال الأوّل، هنالك عدّة نماذج من كتاب مهاجرين هنا في ألمانيا، والذين يكتبون، باعتقادي، حكايات بسيطة وشعبويّة وتفتقد إلى العمق وحتّى إلى المصداقية أحياناً، وتناسب التصوّرات الأوربيّة المسبقية عن الإسلام والعرب والمرأة العربية والشرق وكل هذه الخزعبلات. ليجرّب أحدهم أن يترجم رواية راجت لمهاجر في الغرب إلى العربيَّة، وليخضع للنقد الجدي، أعتقد أنه لن يصمد.
في المثال الثاني، هنالك الفيسبوك السوري، مثلاً الكثير منا، لا يستطيع أن يحكي بأريحيّة نقديّة عن كثير من المواضيع، لأنّه يتعرّض فورًا إلى موجات من الهجوم والتسخيف والتجريح، هذا واقع نعيشه الآن.
الدعوات الثقافيَّة التي توجّه للكتاب السوريين، للحديث عن المنفى واللجوء والهجرة والوطن والحرب والألم والفقدان، كلّها تنتهي في مصبّ خدمة المزاج العام. من جهةٍ أخرى، أخمِّن أنّ المنفى مفهوم غير دقيق في الحالة السوريَّة. سابقًا، كان الخروج من البلاد يعني انقطاعًا معنويّاً ونفسيّاً كاملاً عن موطن الأصل، ودخولاً جديداً مطلقًا إلى عالم مُختلفٍ ومغايرٍ. لكن، غالبيّتنا، ما زالت عالقة حتّى أخمص قدمها في الحدث السوريّ معنويًا على الأقل. وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والشبكة الرقميّة، وفّرت اتصالاً معنويًا مستمرًا وتفاعلاً يوميّاً مع الحدث الدائر في المكان الأصل. المنفى كمفهوم، يفترض انقطاعًا وخروجًا وليس اتصالاً وارتباطاً بالحدث المعنوي للمكان الأصل. كما أنَّ مفهوم الوطن والهوية والبلاد بدأ يتغيَّر بشكل جذريٍّ خصوصاً لدى الشباب من جيلي. إذْ أنّ الوطن فقد بعده المكاني المادّي المباشر، وصار جُملةً من المعاني والأفكار والتصوّرات. لديَّ صديق ألماني، يشعر تمًامًا بأنه في “منفى” لما يذهب إلى القرى النائيّة المحافظة في ألمانيا، والتي يغلب عليها الخوف من اللاجئين والإسلاموفوبيا. في حين يشعر فعلاً بأنه في مكان يشبهه، وفي “وطنه”، في حي “كرويزبرغ” في برلين، حيث المهاجرون واللاجئون والفنانون والطلاب، والحركات اليسارية والمثلية والنسويّة النشِطة. كما أنَّ ثمّة أشخاص متديّنون محافظون من سوريَّة، يشعرون فعلاً بأنهم في منفى في الغرب. المنفى له علاقة باعتقادي، بمنظمومة القيم المعنويّة السائدة في المكان الجديد، وعلاقتها بقيم المهاجر. كما أنَّ ثمّة خلطًا بين الغربة والمنفى. الغربة اشتياق وحنين إلى الأهل والأصدقاء والأقارب والأمكنة، أمّا المنفى، فدخول إلى عالم قيمي جديد مغاير ومختلف تماماً. ثمّة أوربيون أتشابه معهم في التفكير، وأشعر بينهم فعلاً بأني في “وطني”، وثمّة أناس من بلدي أختلف معهم بكل القيم والتصوّرات، وأشعر بينهم بأني في “منفى”.
المنفى كسرديّة كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي تحطمّت تماماً.